صناعة المجاعة- الأسباب الكامنة وراء أزمة الغذاء العالمية

إن عصر الغذاء الرخيص قد ولى… وإذا كان هذا يعني الكارثة لملايين البشر، فإن هناك قلة ستحقق من وراءه أرباح طائلة. كيف يحصل هذا؟

 ينظر معظم المراقبون إلى أزمة الغذاء الحالية بقلق بالغ، فحوالي 45% من سكان العالم يعيشون على أقل من دولارين يومياً وأسعار الغذاء ترتفع باطراد مسببة القلق واليأس لملايين البشر، وعلى ما يبدو فإن الوضع لن يزداد إلا سوءاً: فأسعار النفط مستمرة في الارتفاع، والكوارث الطبيعية المرافقة للتغيرات المناخية تزداد حدة وتكراراً، والقرارات السياسية مثل حصص إنتاج الوقود الحيوي تقوي الرابط بين أسعار الوقود وأسعار الغذاء. إنها كارثة إنسانية بكل معنى الكلمة تهدد بزعزعة الأمن العالمي بأسره.

من ناحية أخرى فإن هذا الوضع يبدو مناسباً للشركات العالمية التي تجنى أرباحاً طائلة من الطلب المتزايد على الحاجات الأساسية، بل إن هذه الشركات تتنبأ بالمزيد والمزيد من الأرباح خلال الأشهر والسنوات القادمة. وإذا كانت التغطية الإخبارية لموضوع أزمة الغذاء تركز أنظار العالم على الاضطرابات التي تحصل في الدول الفقيرة، حيث العمال الفقراء يعانون الأمرين من الارتفاع المستمر في الأسعار، فإنها تغفل الأرباح المتنامية التي تحققها الشركات العملاقة العاملة في تجارة الغذاء مثل كارغيل، إيه دي إم، وتجارة التجزئة كسلاسل المتاجر العملاقة Tesco البريطانية وكارفور الفرنسية وول مارت الأمريكية، حيث يجمع مسؤولوها أن مبيعات الأغذية هي التي تحفظ مؤشرات أرباحها من الانحدار مع تراجع الأسواق المالية العالمية.

لكن هذه الأرباح لم تأت من قبيل المصادفة، فعلى مدى الثلاثين عاماً ماضية دأب البنك الدولي وصندوق النقد الدولي على الضغط على الدول النامية من أجل إنهاء كافة أشكال الدعم للمزارعين المحليين وفتح أسواقها أمام المنتجات الزراعية المدعومة الآتية من الدول الصناعية، وبالتالي تحولت العديد من هذه الدول النامية من مصدر إلى مستورد للغذاء، كما أن تحرير الأسواق المالية ساعد المستثمرين على السيطرة على الأسواق وتوجيهها بما يتوافق مع مصالحهم الخاصة.

تراجعت قدرة الدول النامية على إطعام نفسها إلى حد كبير نتيجة السياسات التجارية التي فرضتها عليها كل من منظمة التجارة العالمية، صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي. هذا الثالوث الغير مقدس هو الذي قادنا إلى أزمة الغذاء الحالية من خلال سياسات التجارة “الحرة” الليبرالية ومن خلال إعادة هيكلة الأسواق في الدول النامية بما يتناسب مع مصالح الشركات الكبرى في دول الشمال. فالدول التي تتلقى مساعدات من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تجد نفسها مجبرة على فتح أسواقها أمام طوفان السلع الزراعية الآتية من دول كبرى كالولايات المتحدة والتي تدعم هذه المنتجات بشكل كبير مما يسمح ببيعها بسعر أقل من التكلفة. هذا يؤدي إلى فقدان قدرة المنتجين المحليين على المنافسة ويدفع بهم خارج السوق، مما يسبب حركة تمدن هائلة مع ترك الملايين حقولهم للعمل في المدن، كما يسبب هجرات العمالة الغير شرعية إلى دول الشمال.

الأمر ذاته يحصل داخل الدول الغنية نفسها حيث يجد صغار المزارعين أنفسهم غير قادرين على المنافسة أمام الشركات الزراعية الكبرى ما يدفعهم للتوقف عن إنتاج الغذاء (وقد يدفع بعضهم إلى الانتحار كما في الولايات المتحدة). وإذا كان هؤلاء يجدون فرصاً أخرى لكسب العيش في بلدانهم فإن الأمر ليس كذلك في الدول الفقيرة.

أيضاً من المتطلبات الأخرى المفروضة على الدول النامية لكي تندمج مع الأسواق العالمية هي التحول إلى اقتصاديات مصدرة. فإذا كانت الدولة تنتج في السابق طيفاً متنوعاً ومتكاملاً من المنتجات الزراعية ضمن حيازات صغيرة فإن هذا التحول سيتطلب منها الاعتماد على زراعة محصول أحادي عالي الإنتاج من أجل التصدير إلى الأسواق الخارجية. وهكذا فإن الممارسات الزراعية التقليدية مثل الدورات الزراعية وإنتاج الغذاء للاستهلاك المحلي والدورات الزراعية المغلقة، كلها سوف تستبدل بأنظمة زراعية عالية التخصص أحادية المحصول ذات استهلاك عالي من الطاقة والمياه مما يؤدي إلى استنزاف التربة وزيادة التعرض إلى الأوبئة والأمراض.

يتم تصدير المحاصيل النقدية مقابل القطع الأجنبي، والذي يستخدم بدوره في وفاء ديون البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. لذلك تخصص لهذه المحاصيل عادة أفضل الأراضي الزراعية، أما إنتاج الغذاء للاستهلاك المحلي فإنه لا يتلقى الكثير من الدعم لذلك فإنه يتراجع ويتحول نحو الأراضي الأقل خصوبة، وهكذا تتحول هذه الدول للاعتماد على الأغذية المستوردة. وفي  جميع الاتجاهات فإن الأرباح تتكدس في جيوب أولئك القائمين على الإنتاج والنقل والتوزيع، بدءاً من الشركات الزراعية العملاقة مثل كارغيل ومونسانتو، إلى شركات النقل والطيران وسلاسل المتاجر في دول الشمال، ولا ننسى أيضاً قطاع النفط الذي لولاه لما كان كل هذا ممكناً، أما الدول المصدرة نفسها فهي ليست على قائمة الرابحين.

نذكر على سبيل المثال هاييتي التي كانت قبل ثلاثين عاماً تنتج كامل احتياجها من الأرز، لكنها أجبرت في الثمانينات على فتح أسواقها وإلغاء الحماية على الأرز وغيره من المنتجات الزراعية وذلك مقابل الحصول على دين من صندوق النقد الدولي، فكانت النتيجة أن أغرقت أسواقها بالأرز الأمريكي الرخيص المدعوم وبالتالي تراجع الإنتاج المحلي إلى درجة كبيرة. إلى جانب ذلك فقد كانت هاييتي من أكبر مصدري السكر في العالم أما الآن ومع مزيد من الانفتاح الاقتصادي فقد أصبحت تستورد حتى السكر.

ومثال آخر هو النيجر، فبعد عشرين عاماً من الإصلاحات الهيكلية فإن المجاعة التي ضربت البلاد عام 2005 كانت دليلاً على أن المشكلة لا تكمن في قلة الغذاء أو الجفاف أو الأوبئة، فالأسواق مزدحمة بالسلع الغذائية من كافة الأشكال، لكن الناس هناك غير قادرين على دفع ثمنها.

وإذا كانت الآثار البيئية لهذا الاقتصاد المعولم القائم على التبادلات التجارية الهائلة مدمرة، فإن الآثار الاقتصادية-الاجتماعية لا تقل تدميراً. إنها حرب ظالمة على الدول الفقيرة يشنها النظام الرأسمالي دون رادع.

 يتبع في الجزء الثاني

النص الأصلي للمقال هنا

 ترجمة: ناديا عطار