الزراعة المستدامة (البيرماكلتشر) .. لماذا الآن؟

في خضم الاضطرابات والأحداث الرهيبة التي تعصف بمعظم بلداننا العربية، قد يبدو الحديث عن الزراعة المستدامة وحماية البيئة ورعاية كوكب الأرض.. إلخ حديثاً خارج السياق تماماً، بل بعيداً عن الواقع إلى درجة مستفزة.. لكن نظرة متعمقة ستكشف لنا كيف أن هذا الحديث هو في صلب الموضوع وصلب الحل، فكيف ذلك؟

الزراعة المستدامة (البيرماكلتشر) لا تتعلق فقط بالزراعة والبيئة، بل هي باختصار شديد محاولة لنشر ثقافة مستدامة .. ثقافة الحياة والحب والتنوع والعودة إلى الطبيعة والفطرة السليمة، مقابل ثقافة المادة والاستهلاك والمنافسة والتخريب.

من المهم أن ندرك هنا أن الثقافة ليست سوى المظهر الخارجي للأنظمة التي تشكلها. فالثقافة تشمل الفنون والعادات والتقاليد والمعتقدات وأنماط الحياة السائدة في مجتمع ما، لكنها ليست منظومة قائمة بحد ذاتها بل إنها نتيجة تفاعل الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والإعلامية.. إنها كالجلد الذي يغطي جسم كائن حي يضم بداخله أعضاء وأجهزة حيوية وعناصر مختلفة، لذلك فإن إحداث تغيير حقيقي في الثقافة يتطلب تغييرات جذرية عميقة، أهمها وأولها التغيير على المستوى الفكري والقيمي.

لماذا نحن بحاجة إلى ثقافة بديلة؟

الصورة العالمية تبدو قاتمة جداً… فالعالم يواجه مجموعة معقدة ومتشابكة من الأزمات الاقتصادية، الاجتماعية، البيئية، الديمغرافية … إلخ وكل منها ما تزال تعد بالمزيد من الكوارث والمآسي.. من الحروب الطاحنة التي تدور هنا وهناك، إلى الأزمات المالية، مروراً بالدمار البيئي وملامح أزمات الغذاء والمياه والطاقة.. في قلب هذا النظام المعقد هناك شبكات المصالح الاقتصادية والسياسية التي تحركها الشركات الرأسمالية الكبرى، أما على السطح فنجد الانتشار السريع للثقافة الاستهلاكية بفكرها المادي والسطحي، التفكك الأسري والاجتماعي، والعنف المتصاعد نتيجة تفكك الروابط الإنسانية.

هذه الظواهر كلها ليست منفصلة أو مفككة بل هي مرتبطة بصورة عضوية ببعضها البعض بحيث يدعم كل منها الآخر. إنها كقطع في لوحة البزل puzzle : عندما نجمعها كلها ونرتبها في مكانها ستظهر لنا الصورة بوضوح، لكن قبل ذلك سيبقى كل منها عبارة عن جزء غير مفهوم. لا يمكن مثلاً فهم الاضطرابات في منطقتنا والحروب الدائرة في سوريا وغيرها بمعزل عن الصراعات على مصادر الطاقة وعن الأزمات المالية العالمية.. أو أن نفصل العادات الاستهلاكية عن آثارها البيئية والصحية المدمرة.

لكن ما الذي يمكن أن تقدمه البيرماكلتشر؟

البيرماكلتشر لا تعطينا بالتأكيد حلولاً جاهزة، لكن تعطينا بعض المفاتيح الأساسية

أحد هذه المفاتيح يكمن في المقولة الشهيرة لأينشتاين: لا نستطيع أن نحل مشكلة باستخدام نفس طريقة التفكير التي أوجدت المشكلة أساساً، إذن فنحن بحاجة لأدوات تفكير جديدة ومختلفة تساعدنا على أن نرى الصورة الكبيرة بدل أن نركز على أجزائها وأن نتعامل مع أنظمة تزداد تشابكاً وتعقيداً. وهذا يتطلب بداية إعادة بناء قدرتنا على صناعة أفكارنا وتوجيهها.

أما المفتاح الثاني فيكمن في تحملنا المسؤولية تجاه وجودنا وتجاه وجود الأجيال القادمة، وهو ما يعتبره بيل موليسون “الموجه الأساسي” لتصميم البيرماكلتشر ويصفه بأنه القرار الأخلاقي الأهم الذي يجب أن نتخذه الآن.

يقول بيل موليسون مؤسس فلسفة البيرماكلتشر في كتابه دليل المصمم

من أجل هذه الأرض نفسها، قمت بتطوير هذه الفلسفة بناء على خبرتي بالأنظمة الطبيعية. إنها فلسفة العمل مع الطبيعة بدل العمل ضدها.. فلسفة المراقبة المتأنية الواعية بدل الكدح المضني بلا تفكير.. أن نفكر بكافة الخصائص التي تتمتع بها الأنظمة و البشر وليس فقط بما تعطيه لنا.. وأن ندع هذه الأنظمة تتطور بطريقتها الخاصة. هناك سؤال أساسي يمكن أن نسأله بطريقتين مختلفتين: “ما الذي أحصل عليه من هذه الأرض أو من هذا الشخص؟” أو “ما الذي يمكن أن تعطيه هذه الأرض أو هذا الشخص فيما لو تعاونت معها؟”. هاتان طريقتان في طرح السؤال: الأولى تقود إلى الحرب والتلف، والثانية إلى السلام والوفرة.

ما هي القيم البديلة التي تطرحها البرماكلتشر

البيرماكلتشر

الثقافة السائدة

العمل مع الطبيعة

حرب على الطبيعة

الإنتاج المسؤول

النزعة الاستهلاكية   الجاهلة

الأخلاقيات

المادية

العمل الجماعي – التعاون

الفردية – المنافسة

البنى الاجتماعية

الرأسمالية وسيطرة الشركات الكبرى

ترشيد وكفاءة استهلاك الطاقة

الاعتماد الهائل على الطاقة

الاكتفاء الذاتي المحلي

العولمة

الزراعات المتعددة المستدامة

الزراعة الأحادية والزراعات الصناعية

التفكير الشمولي

التفكير الاختزالي

بالتأكيد لا تكتفي البيرماكلتشر بوضع الإطار النظري بل ترسم لنا وبصورة مفصلة طريق العمل الإيجابي المنتج وصولاً إلى تحقيق هذه الرؤية، وتشمل خارطة الطريق هذه مجموعة كبيرة من المبادئ، الاستراتيجيات، التقنيات والتي تجد مكانها ضمن إطار أخلاقي شامل. وهكذا فإن البيرماكلتشر هي فلسفة أخلاقية ونظام تصميم مستدام، وأهم ملامحها:

الإيجابية: الدعوة إلى العمل والدعوة إلى إيجاد الحلول : المشكلة هي الحل

الشمولية: فهي تدرس النظم بصورة عامة وليس أجزاءها

الاعتماد على التطبيق والناحية العملية: إذ تنطلق من التجريب والممارسة وليس الأبحاث النظرية

ديناميكية وتتطور باستمرار مع تزايد عدد الممارسين لها

لكن من أهم هذه المزايا برأيي أن من يمارس البيرماكلتشر يشعر أنه أصبح جزءاً من الحل وليس جزءاً من المشكلة، وكما قال لنا أستاذنا جيف لوتن: “تستطيع أن تحل جميع مشاكل العالم في حديقة”.

يتم تطبيق البرماكلتشر غالباً خارج النطاق الأكاديمي فقد صممت لتكون متاحة للجميع بغض النظر عن اختصاصاتهم ولعل هذا أحد أسباب الانتشار الواسع الذي حققته هذه الحركة في جميع أنحاء العالم. أما في العالم العربي فلا تزال البيرماكلتشر العربية تخطو خطواتها الأولى الخجولة رغم الحاجة الماسة، خاصة لدى جيل الشباب، لمثل هذا الفكر الذي يوجه طاقاتهم وتفكيرهم نحو البناء لا الهدم، بناء الإنسان وبناء المجتمع وبناء الأرض.

من هنا سنقوم عبر هذا الموقع، ومن خلال سلسلة من المقالات المتتابعة بإلقاء مزيد من الضوء على البيرماكلتشر كفلسفة ونظام تصميم يسعى إلى تأسيس مجتمعات بشرية مستدامة تتكامل فيها الأنشطة البشرية مع البيئة المحيطة بها، ويكون فيها الإنسان قوة البناء الإيجابية التي تعمر الأرض وترعى ما عليها.

شاركونا بآرائكم وتعليقاتكم فهي مصدر إلهام لنا

المصادر:

بيل موليسون، دليل المصمم، 1988

تقرير حالة العالم 2010، من ثقافة الاستهلاك إلى ثقافة الاستدامة

ملاحظات دورة تصميم البيرماكلتشر مع جيف لوتن 2009