مقدمة حول الزراعة المستدامة

بدأ العالم يتغير من حولنا و غالبية سكان الأرض يحسون بهذه التغيرات المتسارعة: تغيرات مناخية، ارتفاع درجات الحرارة بشكل لافت، الأعاصير،‬ سنوات الجفاف التي أصبحت طويلة وقاسية في بعض المناطق من العالم، استنزاف الموارد، قلة المياه الصالحة للشرب (سيزداد الطلب على المياه بنسبة ١٩ بالمئة سنة ٢٠٥٠ مع أن بعض الدول و نخص بالذكر منها دول شمال إفريقيا و الشرق الأوسط ستشهد انخفاضا كبيرا في مستوى المياه المتوفرة قد يصل الى ٢٥ بالمئة فكيف ستتعامل هذه الدول مع هذا الوضع‪(‬،غالبية الأراضي الزراعية بدأت تفقد أو فقدت خصوبتها مما أثر بشكل مباشر على جودة الغذاء الذي يؤثر على صحة الإنسان مع ارتفاع تكلفة إنتاجه ناهيك عن انقراض العديد من الأنواع الأحيائية التي تساهم بشكل مباشر في توازن الدورة الطبيعية لكوكبنا، علاوة على العديد من المشاكل الأخرى التي يطول معها الحديث … لماذا وصلنا بأنفسنا إلى هذه المرحلة التي لم يسبقنا إليها زمان ولم يعرفها مكان قبل هذا العهد؟

هناك العديد من الأسباب التي أدت بنا إلى هذا النفق الذي أصبح يضيق أكثر فأكثر، منها النمط الجديد للحياة، حياة الاستهلاك و الإسراف و عدم الاكتراث للعواقب،السباق نحو استعمال أكثر مما نحتاجه وامتلاك الأسرع و الأكبر،الأعلى و الأحدث، مما ترتب عنه ظهور الأنانية و حب الذات، مؤمنين أن التكنولوجيا هي السبيل الوحيد لحل كل مشاكلنا الراهنة و المستقبلية بدون إعطاء أي قيمة أو احترام لأشكال الحياة من حولنا.
التغيير الذي أحدثه الإنسان خلال القرن الأخير لم تشهد له الإنسانية نظيراً من قبل…
وتبقى الجهود المبذولة من طرف الحكومات، الهيئات السياسية، المنظمات الحكومية وغير الحكومية‬ ضئيلة جدا بالنظر إلى خطورة الموقف و تأزم الوضع، فالموضوع يحتاج إلى أكثر من هذه الجهود. نحتاج إلى وعي كامل تجاه هذه القضايا و البدء في أقرب وقت ممكن ولو بشكل بسيط حتى يكبر فيما بعد، لأن الأرض هي الكوكب الوحيد في الكون الذي يمكن للبشر العيش فيه. فلنفكر في أولادنا و أحفادنا بل في أنفسنا و عائلاتنا. أي من منا لا يحب الهواء و الماء النقي، الخضر الطازجة الزاكية الرائحة و المغذية؟؟ كلنا يود ذلك لكن من منا عمل او ساعد في عمل ذلك؟
نحن لسنا هنا لنعطي صورة قاتمة أو مظلمة عن المستقبل، بل هنا لنعلم و نلقن و نعطي فكرة عن طرق و أساليب، تقنيات واستراتيجيات أو بكل بساطة علم أخلاقي، يمكّن من النظر إلى المستقبل بتفاؤل كبير، يمكّن من إعطاء صندوق الأدوات الذي من خلاله يمكنك التعامل مع الوضع الجديد بطريقة إيجابية والإحساس بالفخر بأنك طرف منه و فوق كل هذا تحس بالسعادة و أنت تقوم به. علم يعلم كيفية الإتيان بحلول تدعم احتياجات الإنسان من الماء، الغذاء، المسكن، والطاقة دون تدمير أو تخريب للنظم البيئية، و نكون بذلك خارج دائرة كل تلك المشاكل المحيطة بنا.
نظام الزراعة المستدامة أو الزراعة الأصيلة (بيرماكلتشر) هو علم تصميم يعتمد على ملاحظة جميع عناصر الوسط الطبيعي في كيفية تفاعلها مع بعضها البعض ،ومحاكاتها أو تقليدها داخل أنظمتنا (نعني بالنظام: مدينة، قرية، أو ضيعة) بدل التعامل مع كل عنصر لوحده على حدة، كذلك التعامل مع كل خاصيات العناصر كما سيأتي التفصيل في ذلك في أجزاء لاحقة. و يجب ألا ننظر إلى الكائنات الحية في نظامنا على أنها مجرد محاصيل مدرة للربح فقط بل التعامل معها على أنها كائنات ذات قيمة جوهرية و تقديرها.
قام بتأسيس هذا النظام بيل موليسون في أواخر السبعينيات للانتقال من الفوضى والاضطراب إلى الانسجام و التناغم ومن المنافسة إلى التعاون لكن هذا ممكن فقط إذا تخلينا عن فكرة السمو و التعالي و النظر إلى العالم الطبيعي بازدراء.
في البرمكلتشر يكون العمل مع لا ضد الطبيعة، فعلى سبيل المثال ما يحدث اليوم داخل المزارع والقرى من غزو كثيف للحشرات و الحشائش هو عبارة عن استجابة فورية و بشكل سريع من الطبيعة إنما بشكل مصغر، أما ما يحدث من كوارث طبيعية فهو تجاوب سلبي بشكل كبير بسسب تصرفاتنا وإساءتنا الدائمة لهذا الكوكب.<ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ>.
تجدر الإشارة هنا الى نقطة مهمة وهي أن الزراعة المستدامة لا تعني الزراعة وحدها فقط، إلا أن الزراعة تعتبر أحد المكونات الرئيسية في النظام حيث من المستبعد أن نتحدث عن الاستدامة دون زراعة مستدامة. إلى جانب ذلك تغطي الزراعة المستدامة العلوم الأخرى كالهندسة، الطاقة، الماء، الاقتصاد، علم التغذية، التكنولوجيا، الاجتماع وغيرها من العلوم، حيث يعمل تصميم الزراعة المستدامة على جمع هذه العلوم مع بعضها البعض في نسق لتعطينا نظاما متناغماً، تتداخل العناصر المكونة له فيما بينها لاجتناب كل ضياع محتمل للطاقة وبالتالي استغلاله داخل النظام.
أليس من الغريب ألا نقوم بإضافة معارفنا إلى طريقة عيشنا مثلا كأن يقوم المهندس بتصميم بيت لنفسه يبرد من تلقاء ذاته في الصيف ويسخن في الشتاء، أو لماذا لا يفكر الفيزيائي في امتلاك بيت بمتطلبات طاقية قليلة.
عندما نتكلم عن نظام مستدام يجب أن نعطي تعريفا دقيقا لمعنى الاستدامة: وهو الاعتماد على موارد إما مطلقة أو لامتناهية مثلا الشمس، أو موارد تنتج أكثر مما تستهلك، أو على الأقل تنتج بقدر ما تستهلك. وهكذا فإننا باعتمادنا على موارد تتخذ من الشمس مصدراً لطاقتها نكون قد حققنا المعادلة.
‪ ‬ يتبع….

التالي: الأخلاقيات ومفاهيم ومبادئ التصميم