تقرير حالة العالم 2010: من ثقافة الاستهلاك إلى ثقافة الاستدامة -الجزء الأخير

الجزء الرابع والأخير من تقرير حالة العالم 2010- للعودة إلى الأجزاء السابقة هنا

في مجال الإعلام

بعد أن لعب الإعلام الدور الأكبر في نشر ثقافة الاستهلاك، فإنه من الممكن استخدام هذه الأداة القوية في تشكيل ثقافة الناس وتوجيهها نحو الاستدامة، عن طريق نشر الوعي تجاه الآثار السلبية لثقافة الاستهلاك، والترويج لسلوكيات وأنماط معيشة مستدامة وذلك من خلال ما يسمى التسويق الاجتماعي، وهو استخدام أدوات التسويق من أجل إحداث تغيير اجتماعي أو سياسي أو سلوكي، بدلاً من استخدامها للترويج للمنتجات.
على الرغم من التحدي الكبير الذي يواجهه التسويق الاجتماعي أمام الميزانيات الهائلة التي تنفق على الترويج والدعاية، فإن أمامه فرصة كبيرة للاستفادة من الخبرة العريقة التي اكتسبها الإعلام السائد في مجال التأثير على وعي الناس وسلوكهم. أحد الدروس الهامة التي يمكن الاستفادة منها في تجربة الإعلام السائد هي أن الاكتفاء بسرد الحقائق لا يكفي لتغيير سلوك الناس وأنه لا بد من التواصل مع الناس على المستوى الشخصي والإنساني وذلك بالاعتماد على رواية القصص أي من خلال الأفلام والمسلسلات وغيرها. إذ لا يكفي إقناع الناس بأن التحديات البيئية التي تواجهها الأرض حقيقة واقعة، فمعظم الناس يدركون وجود التغيرات المناخية والتلوث البيئي وغيرها، إلا أنهم بحاجة لمن يوجه سلوكهم ويرشدهم إلى ما يجب عليهم عمله.


أحد الأمثلة الرائعة على التسويق الاجتماعي هو مشروع “قصة الأشياء” الذي يروي قصة عشر سنوات من البحث قامت به الناشطة آني ليونارد للإجابة عن سؤال بسيط “من أين تأتي الأشياء التي نستهلكها، وإلى أين تذهب بعد أن ننتهي منها؟. هذا الفلم القصير الذي لا تتجاوز مدته 20 دقيقة، وعلى الرغم من أسلوبه البسيط، يشرح دورة حياة الاقتصاد السلعي بدقة عالية، مبيناً المخاطر البيئية والصحية والاجتماعية والنفسية التي تسببها ثقافة الاستهلاك. منذ إطلاقه عام 2007 شوهد هذا الفلم اكثر من 7 ملايين مرة وترجم إلى العديد من اللغات ومنها العربية.
ومثال آخر هو فلم عصر الأغبياء وفيه نرى عالم آثار، وهو الشخص الوحيد الذي بقي على سطح الأرض بعد دمارها، أثناء استعراضه لبقايا أفلام تعود إلى العام 2008 تبين كيف كان البشر يعيشون في ذلك الوقت، وكيف أنه كان باستطاعتهم وقتها وقف الدمار البيئي، ويتساءل العالم: “لماذا لم نستطع إنقاذ أنفسنا عندما كانت الفرصة متاحة لذلك؟ هل نحن مجرد أغبياء؟”
أيضاً من العوامل الهامة التي تساعد التسويق الاجتماعي على الانتشار هي وسائل الإعلام الاجتماعية، وهي مجموعة من الأدوات التي تعتمد على الإنترنت كمواقع التواصل الاجتماعي والمدونات. لقد أزالت هذه الوسائل العوائق أمام نشر الرسالة الإعلامية على نطاق واسع وبتكلفة زهيدة جداً وبذلك فإنها قضت تقريباً على احتكار الشركات الكبرى لوسائل الإعلام.

 

الحركات الاجتماعية
تمثل الحركات الاجتماعية تبني شرائح واسعة من المجتمع لقضية معينة وسعيهم الجماعي للتأثير على الثقافة العامة وإعادة توجيهها بما يخدم هذه القضية، وقد حققت هذه الحركات نجاحات كبيرة على مدى التاريخ في عدة مجالات مثل قضايا الفصل العنصري والدفاع عن الحقوق المدنية. إن التحول نحو ثقافة الاستدامة يتطلب الآن مشاركة الحركات الاجتماعية بكامل زخمها وقوتها، من أجل تقديم ثقافة الاستدامة إلى المجتمعات بصورة جذابة ومقنعة بحيث تدفع شرائح واسعة من المجتمع إلى قبولها وتبنيها وتحويلها إلى نمط سائد.
هذه نظرة سريعة على بعض القضايا الرئيسية التي تعمل عليها الحركات الاجتماعية المعنية بالاستدامة في أنحاء مختلفة من العالم:

العمل لساعات أقل: نقايض السلع بمزيد من الوقت
تتوجه هذه الدعوة إلى سكان الدول الغنية من أجل تقليص ساعات العمل، الأمر الذي يساعد على تحسين الصحة النفسية والجسدية، وفي الوقت نفسه فإن له العديد من الآثار الإيجابية على البيئة من حيث يؤدي إلى تخفيض الدخل وبالتالي تخفيض الإنفاق. كما يمنح الإنسان وقتاً أطول يقضيه في: التواصل مع العائلة والأصدقاء، ممارسة الهوايات، تنمية المهارات الشخصية، وكذلك التحول نحو البدائل الصديقة للبيئة كإعادة التدوير وطهي الطعام منزلياً، وغيرها من النشاطات التي لا يتاح للأفراد وقت للقيام بها ضمن ضغوط الحياة المعاصرة.
منذ السبعينات، اعتمدت الولايات المتحدة على رفع معدل نموها الاقتصادي من خلال تثبيت عدد ساعات العمل مع رفع الإنتاجية، أما دول غرب أوربا فقد قامت بتقليص ساعات العمل ومنح الموظفين الفرصة للحصول على عطلات طويلة، ولهذا تدل مؤشرات الرفاهية أن المواطن الأوربي يتمتع بحياة ذات نوعية أفضل ويعاني بدرجة أقل من الاكتئاب والضغط وبالتالي يعيش حياة أكثر صحة وسعادة.

الدعوة إلى حياة أكثر بساطة: الأقل هو الأكثر
فلسفة الزهد في المتع المادية والسعي نحو الامتلاء الروحي موجودة منذ أقدم العصور، دعت إليها الأديان ونادى بها الفلاسفة، واليوم تنادي بها الحركات التي تتبنى الاستدامة وتسعى لخلق مجتمع ما بعد الاستهلاك. تتصدى هذه الحركات للقناعات المادية التي نشرتها ثقافة الاستهلاك: قياس كل شيء بالمال، استغلال الناس واستغلال الكوكب لتحقيق منافع شخصية، والروح التنافسية التي تضع الناس في مواجهة بعضهم البعض، وتسعى بالمقابل لنشر قيم التعاون والرعاية والحياة البسيطة.
هناك ثلاثة مستويات للبساطة: المستوى العملي وهو أن يختار الإنسان استهلاك كمية أقل من السلع بناء على قناعته بأهمية ذلك وليس كنوع من الحرمان أو التقشف، وأن يصبح هذا سلوكه المعتاد، يليه المستوى الفلسفي عندما يبدأ الإنسان بالتفكير بعواقب سلوكه كمستهلك على الآخرين وعلى البيئة، ثم المستوى الاجتماعي عندما تتحول البساطة إلى سياسة اجتماعية تهدف إلى تقليص الفجوة بين الأغنياء والفقراء وتعزيز المساواة الاجتماعية.
من الوسائل التي تتبعها الحركات المنادية بالبساطة هي التوعية، تعزيز الروح الاجتماعية كبديل عن التطرف في الفردية، والتركيز على النماذج الناجحة كالقرى البيئية التي تعكس صورة مجتمع سعيد مترابط رغم حياته البسيطة.

اللانمو الاقتصادي:
تعتبر النظريات الاقتصادية الحديثة أن النمو الاقتصادي يقود إلى الازدهار، غير عابئة بحقيقة أن هذا النمو يرهق كاهل الأنظمة البيئية ويقود إلى استغلال الفقراء كما يهدد مستقبل الأجيال القادمة. في الدول الغنية التي تجاوزت في نموها حصتها العادلة من موارد الأرض نشأت حركة تدعو إلى كبح جماح النمو الاقتصادي وتأسيس فكر اقتصادي مستدام، ومن أهم ملامح هذا الفكر هو محلية الإنتاج والاستهلاك، تحمل المسؤولية البيئية للنشاطات الاقتصادية كالصناعة والنقل من خلال فرض ضرائب بيئية، وتشجيع ظهور عملات محلية LETs من أجل الحفاظ على تداول الثروة ضمن حدود المجتمع وعدم امتصاصها من قبل الشركات الرأسمالية الكبرى.

الأطعمة البطيئة:
بدأت هذه الحركة في عام 1986 لمناهضة انتشار الأطعمة السريعة التي بدأت تحل محل الأطعمة المحلية الصحية. حققت هذه الحركة انتشاراً في 132 دولة، وهي لا تكتفي بالترويج للأطعمة الصحية وإنما تسعى أيضاً لربط المستهلكين مع المنتجين، كما تسعى للكشف عن الوجه القبيح للأطعمة السريعة والزراعة الصناعية. إلى جانب ذلك تعمل هذه الحركة على تشكيل جماعات ضغط للتأثير على القرارات السياسية بما يخدم قضاياها العادلة.

القرى البيئية:

القرى البيئية هي نوع من أنواع المجتمعات المقصودة التي تتمحور حول الاستدامة البيئية. التعريف الشائع للقرى البيئية هو تعريف روبرت غيلمان الذي يصفها بأنها “تجمعات بشرية متكاملة تتناغم فيها النشاطات البشرية مع العالم الطبيعي وتحقق التنمية البشرية بصورة صحية قابلة للاستمرار بنجاح على المدى الطويل.
تجتمع القرى البيئية تحت مظلة “الشبكة العالمية للقرى البيئية ” التي تضم المئات من القرى البيئية المنتشرة في جميع أنحاء العالم وعلى وجه الخصوص في الولايات المتحدة وأوربا وأستراليا، كما تضم مجتمعات تقليدية في دول نامية تسعى للحفاظ على هويتها الثقافية واستعادة السيطرة على اقتصادها في مواجهة الضغوط التي تمارسها العولمة.
تعتمد القرى البيئية العديد من البدائل المستدامة مثل: البيوت الخضراء، المعالجة البيولوجية لمياه الصرف، تقنيات الطاقة المتجددة، العملات المحلية، وغيرها. لكن أهم ما تمثله هو التحول الجوهري في القيم في أربع مجالات:

عدم الربط بين الثراء المادي والسعادة: تعتمد الحياة في القرى البيئية غالباً على معدلات منخفضة من الاستهلاك ومع ذلك فإن نوعية الحياة فيها أفضل بسبب الروابط الاجتماعية القوية وروح التعاون السائدة.كما إن قدرة سكان هذه القرى على إنتاج القسم الأكبر من غذائهم بأنفسهم وتوفير احتياجاتهم محلياً يمنحهم شعوراً بالأمان والارتباط بالأرض مما يساهم في تعزيز نوعية الحياة.
ربط الناس مع المكان الذي يعيشون فيه: في اقتصاد العولمة المعاصر فقد الناس الصلة بالمكان الذي يعيشون فيه، فلم يعودوا يدركون حدود الإمكانيات البيئية له. إلى جانب ذلك فقد شهدت العقود الأخيرة محواً تدريجياً للهويات الثقافية للشعوب وظهور نمط شبه موحد للباس والطعام والتقنيات الزراعية والعمارة.. إلخ. في المقابل تسعى القرى البيئية إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي والعيش ضمن حدود الموارد الطبيعية المتاحة في بيئتها، إلى جانب العمل على تحسين الأنظمة البيئية المحيطة بها
المحافظة على القيم والتقاليد: عمدت قوى السوق الرأسمالية إلى تحطيم ثقة الشعوب بهويتها الثقافية من أجل دفعها نحو تبني ثقافة الاستهلاك، ولهذا فإن التحول نحو ثقافة مستدامة يتطلب الاحتفاء بالتنوع في الثقافات البشرية وتعزيز الثقة والفخر بها لدى أفرادها. على سبيل المثال تقوم إحدى القرى البيئية في الهند بتنظيم زيارات لعدد من السكان المحليين إلى دول غربية من أجل الاطلاع على الثقافة الغربية بما فيها من محاسن ومساوئ، وهذا يتضمن التعرف على ما تعانيه المجتمعات الغربية من تدهور وتفكك اجتماعي وعنف.
تعليم عملي وشمولي: تقدم القرى البيئية برامج تدريبية تنشر من خلالها قيمها وخبراتها، وأهم ما يميز هذا التدريب هو:
 الشمولية حيث يتم التركيز على توضيح الترابط والتكامل بين العلوم المختلفة والتي تدرس عادة بشكل منفصل تماماً في التعليم التقليدي، وهذا التوجه يعكس تحول التعليم البيئي نحو تبني الفكر المنظومي
 والتعليم العملي حيث يصبح التعليم عبارة عن تجربة حياتية غنية تعزز الارتباط بين القيم وأسلوب الحياة والنظم الاجتماعية.
يتخذ هذا التعليم ثلاثة أشكال:
 البرامج التي تقدمها القرى البيئية حول مواضيع متنوعة مثل البناء البيئي ودورات تصميم الزراعة الدائمة permaculture
 البرامج المشتركة بين القرى البيئية والمعاهد العلمية والجامعات: على سبيل المثال تقدم قرية فندهورن البيئية في اسكوتلندا التدريب لطلاب قسم التنمية المستدامة في جامعة سانت أندروز، أما جامعة هريوت واط في إدنبرة فقد أنشأت درجة للماجستير في تصميم المجتمعات المستدامة ويعتبر الحصول على تدريب في تصميم القرى البيئية مادة إلزامية فيها.
 جامعة غايا وهي أول جامعة متخصصة بإنشاء وإدارة القرى البيئية وتمنح هذه الجامعة كافة الدرجات العلمية المعتمدة من البكالوريوس وحتى الدكتوراة.

قرى التحول
قرى التحول هي شكل آخر من أشكال المجتمعات المقصودة وهي تتمحور حول تخفيض استهلاك النفط استعداداً لمرحلة ما بعد نضوب النفط، وذلك عن طريق بناء قدرة المجتمع على التكيف مع المرحلة القادمة: مرحلة ندرة الطاقة. تعمل حركة التحول على توعية الناس حول مدى اعتمادنا على النفط في كافة مجالات الحياة، كما تقدم مجموعة كبيرة من الحلول لتقليص هذا الاعتماد مثل: الزراعة المنزلية، الاستهلاك المحلي، إحياء المهارات التقليدية كالحياكة وصناعة الأواني، وتشجع على الحلول الاجتماعية مثل المقايضة والتبادل والمشاركة

خاتمة

ما سبق عرض مختصر عن هذا التقرير، حاولت من خلاله إبراز أهم الأفكار الواردة فيه بإيجاز أرجو ألا يكون مخلاً. وباعتقادي أن الموضوع يحتاج إلى الكثير من البحث والدراسة المعمقة، فالتقرير على الرغم من الجهد الواضح المبذول في إعداده والكم الهائل من الإحصائيات والمعلومات الواردة فيه إلا أن ما يعرضه ليس إلا الجزء الظاهر من جبل الجليد، وما خفي هو مجموعة هائلة من الأنظمة والمصالح الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المتشابكة بصورة بالغة التعقيد والتي تشكل النظام العالمي الحالي.
أتمنى أن يفتح هذا التقرير شهية الناس للقراءة والاطلاع أكثر حول ثقافة الاستهلاك وثقافة الاستدامة، أن يحاولوا الخروج من محيطهم والتعرف أكثر على كوكب الأرض الذي نعيش فيه، أن ينظروا إلى الأمور بمنظار مختلف ويحاولوا أن يناقشوا ويتحدوا أموراً كنا نعتبرها دائماً من المسلمات.
إن أي أزمة قد تحمل في طياتها فرصة ذهبية. والنظام العالمي الحالي يسير إلى أزمة وشيكة، وقد تكون هذه فرصتنا للمساهمة في تصحيح المسار والوصول إلى أسلوب حياة مستدام يعيش فيه الإنسان في تناغم مع نفسه ومع مجتمعه ومع الأرض، وتحل علاقات التعاون والتكامل بدل المنافسة والتدمير.

ناديا عطار

رابط التقرير الكامل بالإنكليزية مع إمكانية تحميل الأجزاء إلكترونياً

http://www.worldwatch.org/bookstore/publication/state-world-2010-transforming-cultures