ما الذي تنتجه مزرعة الزيتونة

مترجم – النص الأصلي هنا

يثبت لنا التاريخ مرة بعد الأخرى أن قيام وسقوط الحضارات مرتبط بطريقة ما بصحة وجودة التربة السطحية. ليس من الصعب فهم هذا الرابط، حيث أن الغذاء هو أساس الحضارة، والتربة هي أساس الغذاء. لكن من الصعب أن نفهم السبب الذي يجعلنا نستمر في العمل بنفس الطريقة التي انتهجتها الحضارات الغابرة: نقطع الغابات، نفلح الأرض، نزرع، نروي، ونحصد وهكذا إلى أن تستنزف التربة وتصبح غير قادرة على دعم أي شكل من أشكال الحياة. تاريخياً كان هذا النمط من الزراعة ينتهي إلى الانهيار، لكننا تمكنا في عصرنا الحاضر من جعله يدوم فترة أطول باستخدام الأنظمة الزراعية المعتمدة على النفط والتي تستطيع أن تجعل المحاصيل تنمو ولو في تربة ميتة.

شاهدت فلم تخضير الصحراء على موقع يوتيوب في خريف عام 2006، وسحرتني فكرة تصميم نظام يعمل على إيقاف تدهور الأرض حتى في أشد المناخات قسوة. بعد عدة سنوات من البحث والسفر، وبعد أن حصلت على شهادة التصميم وقمت بعدد من المشاريع، توجهت في خريف عام 2009 من كندا إلى مركز أبحاث الزراعة الدائمة في أستراليا متطوعاً ضمن برنامج ووف (عمال متطوعون في مزارع عضوية) وهناك انهمكت بشكل كامل في تعلم الزراعة الدائمة لعدة أشهر.

يقع مركز أبحاث الزراعة الدائمة في مزرعة الزيتونة- مقاطعة شانون بأستراليا. تبلغ مساحة المزرعة التي يديرها جيف لوتن 65 هكتار. عندما اشتراها جيف كانت عبارة عن مراعي جرداء غير منتجة ومتدهورة، لكن بعد تسع سنوات أصبحت مكتظة بالغابات الغذائية، أنظمة غابات الخيزران، أنظمة متعددة لحصاد المياه السطحية والسدود مرتبطة مع خنادق جر مياه بطول مئات الأمتار، صادات رياح، أنظمة رعي، حراثات دجاج وحدائق غذائية. إنه موقع نموذجي على أعلى مستوى يظهر بالفعل أنظمة المعيشة المستدامة.

قمت وبكل حماس بالعديد من المهمات والمسؤوليات قدر إمكاني، فقد عملت مباشرة على بناء حظيرة ومنزل من بالات القش، تعلمت كيف أرعى قطيعاً من الماشية وكيف أحلب البقرات والماعز، تعلمت استخدام محراث الدجاج وأنظمة الخراف، وتعلمت أنظمة الحدائق الواسعة والعناية بحديقة المطبخ. كما شاركت في دورة تصميم الزراعة الدائمة التي كان يقيمها جيف حيث استقبلت المزرعة 125 طالباً متحمساً من طلاب الزراعة الدائمة وكان هناك الكثير من النقاشات وتبادل المعلومات.

بعد ذلك بوقت قصير كان باستطاعتي أن أقود الجولات عبر المزرعة وقد استمتعت بهذه المهمة جداً حيث أنها أتاحت لي الفرصة للقاء الزوار من جميع أنحاء العالم والمهتمين بالزراعة الدائمة.

تبدأ الجولات عادة من حديقة المطبخ والتي تقع بالقرب من حظيرة الأوز. هذه الحديقة مصممة على الخط الكونتوري، وفيها أحواض مرفوعة وممرات للمشاة. وقد صممت الممرات بحيث تغمرها المياه المحملة بالزرق من حظيرة الإوز بشكل منتظم.

 أما السد الرئيسي، وهو أكبر أجزاء نظام تخزين المياه، فقد وضع بشكل استراتيجي بحيث يستطيع أن يروي على الراحة خندقاً كبيراً يتماوج مع استدارات الأرض. كما أن السد يعتبر مكاناً رائعاً للاستجمام والتأمل وحتى صيد السمك.

كان هدف جيف من بناء السد وخنادق المياه هو الحصول على مصدر مياه مستمر طوال العام يجري عبر الوادي. ويمكن القول أنه ليس بعيداً عن تحقيق هذا الهدف الآن، فالوادي كان شبه جاف عندما بدأ جيف العمل في الأرض والآن يحصل على المياه طيلة ستة أشهر من السنة.

إلى الأعلى من الوادي المركزي هناك سلسلة من محاريث الدجاج التي تستخدم لتحويل المروج والأراضي المغطاة بالأعشاب إلى أرض منتجة قابلة لزراعة النباتات الغذائية. توضع طبقة كثيفة من غطاء التربة على الأرض تحت محاريث الدجاج، وعندما يبحث الدجاج عن الطعام فإنه ينبش الأرض وينشر الزرق ويساعد على تسوية الغطاء بالتربة. بعد ثلاثة أسابيع يتم تحريك المحراث وتزرع الأشجار المثمرة والشتلات في المكان الذي كان فيه. بهذه الطريقة تقوم الدجاجات بعمل تسوية الأرض وتسميدها قبل زراعة الأشجار.

الحديقة الرئيسية هي عبارة عن حديقة نموذجية تنتج من الغذاء ما يكفي لإطعام المعهد. لا تستغرق العناية فيها أكثر 25 ساعة أسبوعياً وهي تنتج مئات الكيلوغرامات كل أسبوع. للوهلة الأولى قد يبدو المحصول الرئيسي هو اللوبيا وهو نبات بقولي مثبت للنتروجين. ومع أن الكثير من المزارعين يعتبرونه نباتاً غير منتج إلا أنه يقوم بوظيفة هامة وهي تزويد التربة بالنتروجين وكأنه سماد طبيعي.

في الزراعة التقليدية لا يعطى الكثير من الاهتمام لمبادئ مثل بناء التربة وترطيبها وتعزيزها، سواء كان ذلك في مزرعة أم في حديقة عامة أو خاصة. التصميم التقليدي للأراضي والبيئات البشرية لا ينظر إلى التربة والبيئة عموماً على أنها عوامل مساعدة وإنما سلع. وللأسف فإن منازلنا وأنظمتنا الغذائية وإدارتنا للمياه… كلها مصممة بحيث تهدر الطاقة وتتلف التربة وتستنزف المياه كما أنها تقتل الحياة في التربة وبالتالي تساعد على نمو الأعشاب والكائنات الضارة. إلى جانب ذلك فإن القائمين على إدارة هذه الأنظمة يهدرون وقتاً ثميناً في استخدام الآلات المعتمدة على الوقود الأحفوري من أجل رش المبيدات الكيماوية ومواد مكافحة الأعشاب لكي يحافظوا على عمل هذا “النظام”. الفكرة الرئيسية هنا هو أن هذا “النظام” هو في الحقيقة عبارة عن فوضى من الناحية البيئية. إن الاستمرار في العمل بهذه الطريقة يعني أن نمنع البيئة من شفاء نفسها والعودة إلى وضعها الطبيعي، وسيكون علينا في هذه الحالة بذل المزيد من الجهد والعمل والطاقة الأحفورية، ونحن بهذا لا نكتفي بالتسبب في فوضى عارمة، بل نساهم أيضاً في تجريد الأراضي من التربة والغذاء والماء ومن الحياة. لهذا نقول أن الزراعة التقليدية في جوهرها في حرب على الطبيعة، والطاقة التي نستثمرها في هذه الحرب هي طاقة مهدورة وضائعة.

في جولاتي في المزرعة كنت كثيراً ما أتوقف عند الحديقة الرئيسية محاولاً فهم ما الذي يحاول جيف فعلياً تحقيقه في هذه المزرعة وما هي العوائد التي تعطيها.

معظم المزارع التقليدية تعطي محصولاً واحداً، مثلاً قد تكون مزرعة شعير أو أبقار… لكن العائد الذي تعطيه مزرعة الزيتونة هو إيجاد مكان خصب للثقافة الدائمة، وهذا يتجلى –مادياً- في التربة الخصبة، أما اجتماعياً فإنه يتجلى في الأعداد الكبيرة من المدرسين والمصممين الذين سيحققون التحول نحو الثقافة الدائمة. كما أنها تعطي خضاراً صحية وعضوية من حديقة الخضار، فواكه من الغابة الغذائية، البيض واللحم الطازج الذي يتناوله الطلاب يومياً.

لقد أتيت إلى هنا لأتعلم كيف أصمم وأدرّس الزراعة الدائمة وقد تعلمت، لكنني عرفت أيضاً أن جيف لا يقيم السدود ويحفر الخنادق في الأرض فقط، إنه يهيئ أرضاً متدهورة لكي تستقبل جيلاً جديداً. هذه المزرعة تظهر الفرق ما بين التصميم المتأني، الذكي، البيئي وما بين الزراعة التقليدية المدمرة. إنها تأكيد جديد على ما يستطيع تصميم الزراعة الدائمة عمله. لقد أثبت جيف أن باستطاعته أن يعيد الحياة إلى تربة في أقصى درجات الجفاف والتملح، وأننا نستطيع باستخدام المنطق مع تصميم الزراعة الدائمة وبالعمل الجاد أن نفعل الشيء ذاته في أي مكان.

أعتقد أن المهمة التالية، وهي لا تقل صعوبة وتحدياً، هي أن نثبت إمكانية تحويل المكبات الصناعية والمجمعات الصناعية إلى أراضي نستطيع تسليمها إلى الأجيال القادمة بفخر.

 

روب أفيس: مصمم ومدرس للزراعة الدائمة من ألبرتا، كندا