مشروع تخضير الصحراء الثاني-الأردن

مترجم – النص الأصلي هنا

مع التزايد الكبير في النمو السكاني في العالم والذي يترافق مع نقص شديد في الغذاء والمياه فإن العديد منا بدأ يتساءل عما إذا كان البشر سيتمكنون من البقاء على هذا الكوكب على المدى الطويل. إن الدمار الذي تسببه الممارسات الزراعية الحديثة –والتي يقودها جشع الشركات الرأسمالية الكبرى- هو أكبر دليل على حاجتنا إلى تغيير هذه الأنظمة غير الفعالة والعودة إلى التوازن الطبيعي. زيارتي الأخيرة إلى الأردن فتحت عيني على هذه الحقائق أكثر من أي وقت مضى:

لدى وصولي إلى غور البحر الميت فوجئت بأن هذه الصحراء المنخفضة تعج بالخضرة المدارية، لكن نظرة أخرى عن كثب جعلتني أدرك أن ما هو أمامي ليس إلا حقولاً من الموز والمحاصيل التي تتغذى على المواد الكيماوية السامة ضمن أنظمة زراعية أحادية المحصول ومستهلكة للمياه بصورة غير معقولة. وجدت الأمر غريباً باعتبار أن الأردن وخاصة منطقة الغور من أفقر المناطق بالمياه في العالم وأشدها حرارة.

زراعة الموز هي أكثر ما كان يحيرني نظراً لنهمها للماء وفقدها له بكميات كبيرة عن طريق النتح. كما أنني اكتشفت أنها تحتاج بصورة خاصة إلى ماء حلو أي ليس فيه ملوحة، لكننا في منطقة البحر الميت حيث الملح فائض عن الحد. أخبرني أحد مزارعي الموز أنه يزرع منذ عدة سنوات وفي كل سنة يضطر لحفر بئره مسافة أعمق نظراً لأن منسوب الماء مستمر في الانخفاض. (من الملاحظ أن المياه الجوفية هي المصدر الرئيسي للري لمعظم الزراعات في الأردن). لقد وصل حالياً إلى عمق 130 متر وبدأت المياه تزداد ملوحة، ومن المحتمل أنه بعد ثلاث سنوات من الآن ستصبح مالحة لدرجة لا يتحملها الموز. هو يخطط أن يستمر بزراعة الموز حتى ذلك الوقت، وبعدها ينتقل إلى زراعة محصول آخر أكثر تحملاً للملوحة (وغالباً ما سيكون أشد ظمأً للماء)، لكن ماذا سيفعل بعدها عندما يصبح الماء مالحاً جداً والتربة متملحة لدرجة لا يتحملها أي محصول؟ لن يكون هناك الكثير من الخيارات أمامه.

في السابق كان نهر الأردن يقدم المياه بوفرة للمنطقة، لكن الآن لم يبق منه سوى جدول هزيل. إن ممارسات الري على نطاق واسع لعبت دوراً هاماً في تقليص حجم المياه في النهر. إلى جانب ذلك، ومع تزايد النمو السكاني، فقد ازداد الطلب على المحاصيل الغذائية الرخيصة الثمن خلال العقود الأخيرة. والطرق الحديثة في الزراعة المكثفة أدت إلى تزايد استخدام الأسمدة الكيماوية والفلاحة المستمرة للأرض. كل هذا أدى إلى تدمير الأنظمة البيئية وتدمير بنية التربة مما جعلها غير قادرة على الاحتفاظ بالماء والمواد المغذية، وفي نفس الوقت أصبحت تزداد ملوحة. وإذا أضفنا إلى الصورة التغير المناخي والارتفاع غير المسبوق في درجة الحرارة فإن إمدادات الغذاء في المنطقة تبدو في خطر.

وليس من المستغرب القول أن أحد العوامل التي أشعلت فتيل الثورات الشعبية التي تشهدها مصر وتونس مؤخراً هو ارتفاع أسعار الغداء ونقص المياه، هذه القنابل الموقوتة ستمتد في المستقبل ولن يقتصر تأثيرها على شمال أفريقيا والشرق الأوسط.

لكي نتجنب هذه الكوارث البيئية والبشرية، ولكي نتمكن من إنشاء أنظمة بيئية صحية مستدامة لتتمتع بها الأجيال القادمة، فإنه لا بد لنا أن نبدأ بالتحرك الفعال منذ الآن مستثمرين في ذلك كل ما نقدر عليه من جهد ووقت. وما يشجعنا على ذلك هو وجود حلول عملية بدأت تنتشر في جميع أنحاء العالم، وأعداد متزايدة من الناس الذين يعتنقون هذه الممارسات والحلول الأخلاقية والبناءة يدفعهم في ذلك رغبة ملحة للتخلص من الأساليب المدمرة والغير مستدامة السائدة حالياً.

 الزراعة الدائمة هي إحدى الوسائل التي تقدم لنا حلولاً متكاملة واستراتيجيات تضمن قيام علاقة تعاون صحية منتجة بين الإنسان وبين الأرض. إنني أشارك حالياً في تطوير مركز أبحاث الزراعة الدائمة في مكان لا يبعد سوى كيلومتر عن المزارع التي ذكرتها آنفاً. في هذا المركز يتم تصميم وتطبيق أنظمة تبين لنا كيف نستطيع أن نلبي احتياجاتنا حتى في أصعب البيئات بدون اللجوء إلى تلك الممارسات المدمرة. هنا نستطيع أن نحصل على غذاء غني عالي النوعية طوال السنة، نقلص استهلاك المياه إلى العُشر، ننتج الطاقة المستدامة بكمية فائضة، نحصل على معظم -إن لم نقل كافة- مستلزماتنا من النظام نفسه، نحول الفضلات إلى موارد، نقدم التعليم والتمكين للمجتمع المحلي، وفي نفس الوقت نعيد تأهيل أراضينا المتدهورة. نستطيع أن نعيد تأسيس أنظمة بيئية طبيعية تدعم نفسها بنفسها وتقدم المأوى لجميع أشكال الحياة البرية بدءاً من التربة وحتى السماء، تعطينا ظلاً لطيفاً مما يقلل التبخر ويزيد عملية النتح وبالتالي يساعد على ترطيب الهواء وهذا مهم في البيئة الصحراوية، نخفض انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون حيث تمتصه التربة والنباتات، ننشئ أنظمة غذائية متنوعة ومتعددة المحاصيل والتي تتمتع بالاستقرار والإنتاجية وتصبح مع الوقت أقل اعتماداً على المصادر الخارجية وعلى عمل الإنسان.

الأمر بالتأكيد يتطلب عملاً وقد يكون صعباً في البداية، لكن عندما يتم وضع التصميم وإدارته بفعالية فإنه سيكون قادراً على دعم نفسه لفترة طويلة.

هناك تطورات سريعة في موقع المركز بالأردن حصلت خلال الأشهر الماضية. شاركت في العمل مع عدد من السكان المحليين والذين تعلموا الزراعة الدائمة من خلال الدورات السابقة التي أقيمت في الموقع، إضافة إلى متطوعين من القرى المجاورة. كما تلقى الموقع زيارة من الأميرة بسمة بنت علي وهي حالياً تعمل على تطوير الحديقة البيئية الملكية، الأولى من نوعها في الأردن، كما أنها مهتمة بشكل خاص بتقنيات البناء الطبيعي من أجل توفير مساكن ملائمة لذوي الدخل الأدنى في المجتمع الأردني. وقد التقت هناك بخبراء في البناء الطبيعي حيث كانوا يقيمون دورة تدريبية في هذا الموضوع.

وهكذا ننتقل من الرؤية العالمية إلى ممارسة الزراعة الدائمة على أرض الواقع. فيما يلي سأقدم شرحاً عما تم تنفيذه أو يمكن تنفيذه وصولاً إلى بيئة صحراوية منتجة ومستقرة. وبقليل من التكييف والتعديل فإن هذه التقنيات يمكن أن تطبق بنجاح في أي منطقة أو بيئة أخرى.

استراتيجيات حصاد مياه الأمطار:

من الطبيعي أن يكون لجمع وتخزين المياه الأولوية، والهدف هو إيجاد طريقة سلبية لجمع أكبر كمية ممكنة من مياه المطر والاستفادة منها. هناك كميات كبيرة من مياه المطر تفقدها المزرعة حيث تتدفق باتجاه الشارع المجاور. تسقط الأمطار على شكل زخات نادرة لكن بكميات كبيرة، ولا تتعدى كميتها 150 مم سنوياً لذلك كان علينا أن نصمم استراتيجية تمكننا من توجيه أكبر كمية ممكنة إلى داخل المزرعة وإلى داخل التربة بأسرع وقت ممكن نظراً لمعدل التبخر العالي في المنطقة. سيتحرك الماء عبر طبقات متعددة لكن ستكون سرعته أخفض مما يجعل امتصاصه أسهل من جذور النباتات. نبدأ بالتخطيط من أعلى نقطة في مجرى الماء لكي نتحكم بجريان الماء ونوزعه بطريقة أكثر فعالية.

كان هناك كومة من الرمل من مخلفات البناء استخدمناها كسد خارج الأرض، بحيث أنها تمتلئ لدى هطول المطر، ثم حفرنا قناتين لتوجيه جريان المياه ببطء باتجاه السور، وهناك أقمنا سدين حجريين (كابيون: حجارة موضوعة ضمن شبك) من أجل تخفيف سرعة جريان الماء أكثر وحصر الطمي (الغني بالمواد المغذية والذي سيستخدم فيما بعد في المزرعة). بعد أن يتم تصفية المياه عبر السدود الحجرية يتم توجيهها نحو أحواض تسريب مستوية ومملوءة بالملش حيث يتم فيها جمع المياه وتخفيف سرعتها أكثر. عندما يمتلئ كل حوض فإن الفائض منه يسيل إلى حوض آخر عبر قناة حجرية تنخفض 50 مم عن حافة الحوض العليا. تشكل الأحواض ما يشبه بيئة مصغرة ملائمة لزراعة أنواع نباتية جديدة ومفيدة مما يعزز التنوع الحيوي في النظام عموماً.

عندما يصل الماء الفائض إلى الحوض الأخير فإنه يدخل ضمن سلسلة من ثلاثة خنادق مائية  (وهي عبارة عن قنوات لحصاد المياه تحفر على الخطوط الكونتورية) ومن هناك ينتشر الماء ويتسرب إلى داخل التربة. عندما يمتلئ الخندق الأعلى فإن الماء الفائض يتدفق إلى الخندق التالي عبر قناة. أقمنا أيضاً ساتر  ترابي عبارة عن كومة من التراب بين الأرض والطريق من أجل جمع المزيد من المياه وتوجيهها إلى الخندق الثالث. من حسن الحظ أننا تمكنا من حفر الخندق على مدى ثلاثة أرباع عرض المزرعة تقريباً. وهكذا وبفضل حافته الطويلة يمكن لنا توزيع المياه الضرورية لمسافة طويلة بدون الحاجة إلى ضخ يدوي أو مضخات، بحيث يمكن ري كل المساحة الواقعة أسفل الخندق (وجزءاً صغيراً من المساحة فوقه إذا أخذنا بالاعتبار الأثر الشعري).

زراعة الأشجار الصحراوية:  

نظام الغابة الغذائية الذي وضعناه يضم بشكل أساسي نباتات بقولية ومحاصيل قابلة للأكل بنسبة خمسة إلى واحد، مع ملاحظة أن هذه النسبة سوف تعكس فيما بعد عندما يصل النظام إلى مرحلة النضج. النباتات البقولية الصحراوية تتمتع بقدرة كبيرة على التحمل لذلك تستخدم كرائدة لتجهيز الأرض فهي “تنقب” عن المعادن والمواد المغذية وتسحبها إلى سطح التربة لتمتصها وتتحول بداخلها إلى مادة عضوية يمكن الاستفادة منها. تستخدم هذه النباتات كمصدر للظل والملش والعلف للحيوانات. وفي الوقت ذاته فإنها تساعد على إعادة تشكيل بنية التربة وخصوبتها من خلال التثبيت الطبيعي للنتروجين في منطقة الجذور، كما أنها أقل شراهة للماء من غيرها من النباتات.

 ثم أدخلننا إلى النظام محاصيل غذائية حولية تستفيد من النباتات البقولية، مثل النخيل، الجوافة، البابايا، الرمان، الزيتون، التين، العنب، وبعض أنواع الحمضيات.

عندما نقوم بزراعة النباتات، من المهم أن نهيئ لها أفضل الظروف الممكنة لتبدأ منها، وهذا ينطبق على كافة المناخات والظروف وخاصة إذا كنا في منطقة صحراوية متملحة. إليكم شرحاً موجزاً عن التقنيات التي استخدمناها هنا:

يتم حفر حفرة كبيرة وعميقة، وتفرش أرضها وجوانبها بالكرتون (يفيد الورق والكرتون في تغذية التربة بالفطور)، ثم تسقى بكمية وافرة من الماء وتملأ بالتراب والملش (استخدمنا هنا كملش أوراق الموز من المزارع المجاورة) وتمزج معاً حتى تملأ ثلاثة أرباع الحفرة، وعندما تصبح هذه التربة العضوية لزجة بما فيه الكفاية يتم حفر حفرة في وسطها وتوضع فيها النبتة، بعدها نستمر في إضافة التربة والسماد العضوي في الأعلى فوق منطقة الجذور، ثم تسقى بالماء وتغطى بمزيد من الملش.

مراحيض التخمير (الكومبوست)

استخدمنا هنا نظام فارالون لتحويل المخلفات البشرية إلى كومبوست. عندما وصلت كان البناء جاهزاً وبقي علينا تجهيز السطح الشبكي الذي ستسقط عليه المخلفات. يرتفع هذا السطح الشبكي 100 مم عن الأرض والهدف منه توفير التهوية تحت كومة المخلفات. قمنا أيضاً بوضع أنبوب تصريف للسماح بالسائل الفائض بالخروج من حجرة التخمير، وهذا السائل يتم توزيعه بصورة سلبية باستخدام قوة الجاذبية، وذلك عبر أنبوب إلى شجرة النخيل المجاورة والتي بدورها توفر الظل للبناء. عندما يكتمل تخمير الفضلات البشرية فإنه يمكن استخدامها كسماد.

  

الكومبوست

لكي نؤسس نظام كومبوست جيد نحن بحاجة إلى مواد تحتوي على النتروجين (كالروث والبقوليات) والكربون (كالمخلفات الزراعية) وكلاهما متوفر في هذه البيئة الصحراوية. كان الحصول على المواد الخضراء بكميات كبيرة أصعب إذ لم يكن لدينا سوى بعض الأعشاب التي نمت بعد الأمطار الأخيرة، لكن بمساعدة أنسلم وحمزة الذين يديران برنامجاً لإعادة التدوير في الأردن فقد اتفقنا مع بعض الفنادق المجاورة للحصول على مخلفات مطابخها بدل دفن هذه المخلفات في المطامر. كما عثرنا على شبكة فولاذية متينة في المزرعة وصنعنا منها سلة مدورة.

أما الروث فكان عبارة عن مزيج من مخلفات الماعز والأغنام وزرق الحمام. كلما تنوعت المكونات كلما حصلنا على تنوع أكبر من الأحياء الدقيقة المفيدة. بالنسبة للمواد الغنية بالكربون فقد استفدنا من مخلفات الزراعة في المنطقة وبشكل أساسي من أوراق الموز والنخيل ممزوجة مع بعض القش من مخلفات البناء.

  مزجنا هذه المواد بنسبة مقدار من النتروجين مع واحد ونصف من الكربون إلى مقدارين من المواد الخضراء. هذه النسبة تعتمد على عدد من العوامل، لكن بالنسبة للمجتمع المحلي هنا فإن هذه المعادلة سهلة ويمكن لهم تطبيقها بسهولة كبداية، لكن بعد اكتساب الخبرة الكافية في هذا المجال يمكن أن نبدأ باختبار النسب المختلفة للفطور إلى البكتريا والملائمة للدورات الزراعية المطبقة. بعد إنتاج الدفعات الأولى بنجاح سوف نعمل على تطبيق نظام مصغر لصناعة شاي الكومبوست وذلك لتعزيز التسميد البيولوجي وعمليات بناء التربة والمكافحة الحيوية للأمراض.

 

في البداية كانت أحواض الزراعة الأساسية منحرفة قليلاً عن الخطوط الكونتورية للأرض لذلك قررنا إعادة تصميمها لجعلها أكثر ملاءمة لطبيعة الأرض وأكثر تحملاً وذلك من خلال إيجاد حواف دائمة. منطقة الزراعة يجب أن توضع على الخطوط الكونتورية للأرض وهذا يعني أنها ستكون مستوية من أولها إلى آخرها، وبهذا فإن أي كمية من الماء ستدخل هذا النظام سواء كانت من المطر أو من الري التكميلي سوف تحبس في التربة لأطول وقت ممكن. (لو زرعنا على منحدر فمن الطبيعي أن الماء سوف يجري إلى الأسفل بسرعة). وبما أننا بحاجة إلى حبس أكبر كمية ممكنة من الماء والاستفادة منها فقد قمنا بتبطين الأحواض الكونتورية بطبقة من البلاستيك غير النفوذ. هذه الطريقة معاكسة تماماً لما هو متبع في الغابات الغذائية الحولية حيث الوضع المثالي هو السماح للمياه بأن تتسرب إلى الطبقات السفلية من التربة قبل أن تتبخر. لكن في هذه المنطقة نحن نستخدم فقط نباتات حولية قصيرة الجذور لا تصل جذورها أبعد من 300 مم تحت سطح التربة وبالتالي ليس من الضروري ترطيب الطبقات السفلى من التربة.

تم تصميم الأحواض بحيث تفصل بينها ممرات تتيح الوصول إلى الأحواض من الطرفين وذلك حتى لا تداس التربة بأقدام الزائرين ما يؤدي إلى ضغطها وتراصها.

من الضروري أن يتم ري جميع المحاصيل الغذائية الحولية هنا بواسطة شبكة ري بالتنقيط طيلة السنة تقريباً. عندما تكبر هذه الأشجار فإنها ستوفر الظل وبالتالي تقلل الحاجة إلى المياه.

ملاحظة من جيف لوتن: معظم التقنيات المستخدمة هنا مأخوذة من كتاب بيل موليسون “الزراعة الدائمة – دليل المصمم” الفصل 11 استراتيجيات المناطق الجافة. العديد من هذه التقنيات قد تم اختبارها وتطبيقها بنجاح منذ عام 1999 مع تكييفها بحسب الظروف المحلية.

حقوق الصور محفوظة لـ كريستيان دوغلاس

 ترجمة ناديا عطار