قصة التربة

مترجم – النص الأصلي هنا

ما هو الفرق بين التربة والتراب؟

التربة حية أما التراب فهو ميت. إن حفنة من التربة تضم بلايين من البكتريا المجهرية والفطور ووحيدات الخلية والديدان الخطية، إلى جانب عدد من ديان الأرض والكائنات المفصلية وغيرها من الكائنات الزاحفة. التربة الصحية هي مجتمع معقد من أشكال الحياة وهي في الحقيقة من أغنى الأنظمة البيئية بالتنوع الحيوي على وجه الكوكب.

يظهر العلم الحديث أن هذه الكائنات الدقيقة التي تعد بالبلايين تعمل بشكل متواصل على بناء التربة وإنتاج المواد المغذية إلى جانب بناء الأنظمة الدفاعية ضد الأمراض. في الحقيقة لقد ثبت أن صحة التربة هي عامل أساسي في صحة النبات وبالتالي صحة غذائنا وأجسامنا.

لكن لماذا نجد أن معظم الغذاء الذي تنتجه الأنظمة الزراعية التقليدية يتم إنتاجه في التراب وليس في تربة؟ إن النباتات التي تنمو في هذا التراب الخالي من الحياة تعتمد بشكل أساسي على الأسمدة والمبيدات والمواد الكيمائية، والتي بدورها تلوث المياه وتضر بصحة التربة ومحتواها من المواد المغذية.

كيف وصلنا إلى هذه المرحلة؟ وكيف يمكن لنا أن نعكس هذا التوجه؟ إليكم قصة التربة:

تقليب وحراثة التربة:

قبل حوالي عشرة آلاف عام بدأ الناس بفلاحة الحقول بعد أن اكتشفوا ما يعرف بـ” الزراعة”. لاحظ المزارعون أنه عندما يحرث الحقل فإن المحاصيل تنمو بشكل أسرع وهكذا استنتجوا أن الفلاحة مفيدة وراحوا يفلحون المزيد والمزيد من الأراضي.

في الواقع، إن البكتريا والفطريات والحشرات الموجودة في التربة هي عبارة عن مواد غذائية أساسية محصورة ضمن كائنات حية. على سبيل المثال 90% من البكتيريا عبارة عن نتروجين. وفلاحة التربة تؤدي إلى قتل أشكال الحياة هذه مما يؤدي إلى تحرير كمية هائلة فورية من المواد المغذية لتحصل عليها النباتات المحيطة. لكن مع الوقت تموت الكائنات الدقيقة وتصبح التربة غير قادرة على دعم الحياة بصورة طبيعية وبالتالي يصبح المزارع مضطراً لإضافة المزيد والمزيد من الأسمدة إلى الأرض، وهكذا نشأت الممارسات الزراعية الحالية: إزالة الغابات، حراثة الأرض، السقاية، تملح الأرض، التصحر… وهكذا.

كيف غيّر الحمض الصناعي العالم؟

قبل حوالي 150 عاماً اكتشف الناس كيفية تصنيع حمض الكبريت، مما سمح بحدوث ثورة في الزراعة الصناعية: إمكانية حل المعادن وتحويلها إلى شكل قابل للانحلال في الماء. هذا يعني إمكانية إضافة المغذيات الرئيسية مثل النتروجين والبوتاسيوم والفوسفور إلى التربة بطريقة تستطيع النباتات فيها امتصاصها بسهولة.

تم اكتشاف طريقة تصنيع الحمض في الوقت نفسه تقريباً الذي اكتشف فيه النفط مما جعل ممكناً القيام بالفلاحة على نطاق أقوى وأسرع وأكبر مع استخدام المواد المغذية على شكل محلول مائي ملحي.

حسناً، ما هي المشكلة في نظام قادر على الإنتاج بكمية هائلة؟

النباتات وجذورها:

هناك نوعان رئيسيان من جذور النباتات: الجذور الوتدية والجذور الشعرية، فالجذور الوتدية تعمل على امتصاص المياه، أما الجذور الشعرية فوظيفتها الرئيسية هي امتصاص المعادن مثل الكالسيوم والمغنزيوم عن طريق إجراء مبادلات مع الكائنات الحية الموجودة في التربة، ومن خلال هذه المبادلات فإن الجذور الشعرية تشكل حول نفسها بيئة تدعى ريزوسفير، وهي البيئة الخاصة بكائنات التربة الحية.

من خلال عملية التركيب الضوئي تقوم النباتات بإنتاج مواد مغذية (السكريات) وتخصص حوالي نصفها للمبادلة مع الوسط البيولوجي للتربة، فعندما يحتاج النبات إلى معدن معين وليكن الكالسيوم مثلاً فإنه يقدم هذه المواد المغذية إلى الكائنات الحية المنتجة للكالسيوم ضمن علاقة تكافلية حقيقية.

لكن إذا قمنا بفلاحة التربة فإن الكائنات الحية الدقيقة الموجودة في التربة ستموت، فكيف للنبتة إذن الحصول على النتروجين؟ الحل الصناعي هو تقديم هذا المعدن إلى الجذور الوتدية مباشرة بشكل محلول مائي يضاف إلى ماء الشرب وهو ما يسمى بالسماد. إن تصنيع الأسمدة الحاوية على النتروجين والبوتاسيوم والفوسفور يعني أننا لم نعد بحاجة للاعتماد على بيولوجيا التربة في نمو نباتاتنا، ويكفينا أن نضيف هذه المواد المغذية بالنسبة التي نحتاجها لكي تنمو النباتات أسرع وأقوى من قبل في تربة لم يعد فيها حياة.

إذا قمت برش بعض الملح على بزاقة فإن الضغط الحلولي سوف يرتفع في جدران خلايا الحيوان مما يقتله. هذا التشبيه يساعدنا على فهم ما يحدث لبيولوجيا التربة عند استخدام الأسمدة ذات الأساس الملحي (لاحظ أن الأساس في جميع الأسمدة هو الأملاح المعدنية)، وطالما أننا نستمر في التسميد فلن يكون هناك مجال لعودة الحياة إلى التربةـ بدون هذه الحياة لن تحصل عمليات التبادل الطبيعي، وإلى جانب ذلك فإن إرغام النباتات على شرب السوائل المعدنية عبر جذورها الوتدية سيمنع تطور بنية صحية للجذور. إن استعمال السماد أشبه بالإدمان على المخدرات، فهو يخرب بيولوجيا التربة ويحل نفسه محلها فيصبح من الضروري استخدامه باستمرار.

الدوامة المدمرة

في أواخر الخمسينيات أصبح المزارعون يستخدمون الأسمدة الكيماوية بكثافة ومع تطور المحاريث بدأت التربة في جميع أنحاء العالم بالتدهور. إن استخدام الزراعات الأحادية، الحراثة الجائرة، الري والتسميد قضى على التربة الخصبة وجعل النباتات مدمنة على الكيماويات، وهذه النباتات المريضة والضعيفة أصبحت عرضة لكل أنواع الآفات، كما أن التربة المتدهورة أصبحت مكاناً ملائماً للأعشاب الضارة وغيرها. لكن هذا لا يستدعي القلق على حسب رأي الشركات المصنعة للمواد الكيماوية، فلديها الحل: لنقتل هذه الآفات المزعجة! وهكذا ظهرت مبيدات الحشرات ومبيدات الأعشاب. المشكلة التالية التي ظهرت كانت الفطور الضارة، فالتربة غير الصحية لا تستطيع دعم وجود الفطور المفيدة، ومرة أخرى كان الحل هو مبيدات الفطور. وهكذا تحولت التربة إلى تراب ميت متملح بل وملوث كيماوياً أيضاً.

ما الذي تقوله لنا الأعشاب؟

الكربون هو حجر البناء للكائنات الحية وبدون الكربون تموت التربة.  يرتبط الكربون والنتروجين معاً بنسبة 30 إلى 1، ويعلم معظم المزارعين أنه عندما يكون لديك زيادة من الكربون (مثلاً أوراق جافة أو قش) فإن النتروجين يتناقص، والعكس أيضاً صحيح فعندما يزيد النتروجين (من خلال إضافة السماد) تنقص نسبة الكربون في التربة. وبدون الكربون تفقد الفطور غذاءها وتموت، فتنهار بنية التربة وتصبح تراباً قاسياً مضغوطاً خالياً من الهواء (الأكسجين)، وعندها تظهر العلامات التي تدل على أن الطبيعة تحاول إعادة إصلاح نظام مريض: الأعشاب، الآفات، والتآكل.

ثبت أن الأعشاب التي تنمو على وجه التربة هي رد فعل على مشكلة تعاني منها هذه التربة، فعلى سبيل المثال تنمو pig weed thistle في التربة الغنية بالنترات أي التي استخدم فيها السماد لفترة طويلة، في حين أن bracken ferns  و blady grass تنمو في التربة التي تفتقر إلى البوتاسيوم (مثلاً التربة التي تعرضت لحريق) لذلك فإن الأعشاب التي نقتلها بمبيدات الأعشاب عادة لها في الحقيقة وظيفة بيئية فهي تدل على زيادة النتروجين والافتقار إلى التهوية وهي تحاول بناء مستويات الكربون في الطبقات العليا من التربة.

هذه الأعشاب لا تستخدم الطاقة الناتجة من عملية التمثيل الضوئي للقيام بمبادلات مع بيولوجيا التربة وإنما تعمل على إنتاج الآلاف من البذور وكميات كبيرة من الكربون، وعندما يرتفع محتوى التربة من الكربون تصبح قادرة على إيواء الفطور والبكتيريا المفيدة مما يعيد لها في النهاية عافيتها. إن الظهور المتسارع للأعشاب والآفات ما هو إلا آليات دفاعية تستخدمها الطبيعة لمنع أحادية النوع وتعزيز التنوع الحيوي.

إذا كنا نرغب بمنع ظهور الأعشاب والآفات فعلينا أن نعرف أولاً سبب وجودها، فالأعشاب تخبرنا كيف يمكن إصلاح التربة وما هي التقنيات التي يمكن أن تسرع عملية الإصلاح، مثلاً ماهي النباتات التي يمكن إضافتها لتعزيز عملية بناء التربة.

أنماط تكرر نفسها

إن الحلول التي تلجأ إليها الزراعة الصناعية قائمة على طريقة تفكير محدودة وضيقة الأفق تتعامل مع أعراض المشكلة بدل التعامل مع أسبابها الحقيقية مما يقود إلى خلق مشاكل جديدة. لقد وصلنا إلى مرحلة اخترعنا فيها نباتات مهجنة لتنمو في التراب الخالي من الحياة، وقمنا بتعديل غذائنا وراثياً بحيث يحتمل المواد الكيماوية من مبيدات حشرية ومبيدات للأعشاب وأسمدة. ومع ذلك فإن الاستخدام المفرط لهذه الكيماويات ليس فقط يوقف التطور الطبيعي للأنظمة البيئية ولكن يقودنا كذلك نحو الدمار والتصحر.

من المثير للاهتمام هذا الشبه الكبير بين التربة في الزراعة الصناعية الكيماوية وبين الإنسان في الصناعة الدوائية، ففي كليهما نقوم بمعالجة الأعراض، حماية الدواء ببراءات الاختراع، ومن ثم جني الأرباح الطائلة من جراء تدهور الصحة. وباعتقادي الشخصي أن الموت البطئ للتربة الصحية عبر العقود الماضية نتيجة الزراعة الجائرة هو السبب المباشر وراء زيادة الأمراض ونقص المناعة لدى البشر.

من الأقوال المأثورة لدي قول أحد المزارعين: لقد سئمت من إحياء ما يريد أن يموت وقتل ما يريد أن يعيش! فعلاً إننا ننفق الأموال الطائلة من أجل القتل في حين أن الطبيعة لا تريد سوى الحياة. وماذا لو أننا استثمرنا هذه الأموال التي نقتل بها الأعشاب والآفات والفطور في إجراءات تشجع الحياة وتعمل مع الطبيعة بدل العمل ضدها. كلما أمعنا النظر في النظام الحالي فإننا سندرك أن سعينا للسيطرة على الطبيعة أوصلنا إلى  نظام يعاني من الشح والندرة، لذلك فإننا في حاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى مفاهيم جديدة تقودنا إلى نظام يتمتع بالحياة والوفرة.

ومن حسن الحظ أن هذه المفاهيم الجديدة قد بدأت فعلاً بالظهور من خلال أحد فروع علوم التربة ويدعى شبكة التربة الغذائية Soil food web. بول تايلور على سبيل المثال يعمل في الزراعة العضوية منذ أكثر من ثلاثين عاماً وهو يقدم دليلاً حياً على أن استخدام الكومبوست الهوائي وشاي الكومبوست يمكن أن يحول تراباً متدهوراً إلى تربة تعج بالحياة خلال أقل من ثلاث سنوات، وإذا أضيف إليه حصاد المياه وتصميم دورات مائية فإن النتائج ستكون مذهلة. الطبيعة تريد أن تعود وكل ما علينا عمله هو مساعدتها ولهذا فإن تصميم الزراعة الدائمة يقدم لنا كافة الأدوات التي نحتاجها لتحقيق ذلك.

ترجمة: ناديا عطار